يقول المراقبون إن جزائر اليوم ليست بالتأكيد جزائر مرحلة التسعينات، «العشرية الدموية»، وليست تلك الفوضى العارمة التي طالت البلاد والعباد، فصورة اليوم تشهد حركية في اتجاهات عديدة، وسط أجواء أمنية كبيرة، وان أعمال العنف المسلح كادت أن تختفي تماما من مظاهر الحياة العامة للجزائريين، وإن حدثت فهي عرضية، ليست بحجم الكارثة التي عاشها الجميع قبل سنوات. فراهن الحال فيه واقع سياسي واجتماعي يتحرك على أكثر من صعيد، وهناك مشاهد حاشدة بالحركة العامة على كافة المجالات، وإن لم تكن بالضرورة تدل على رخاء وازدهار واستقرار نفسي واجتماعي، فهي في بعض الأحيان حركة تزين المشهد العام ليس إلا، وهناك مشاهد للإنصاف تدل بالضرورة على صيرورة عامة للدولة.
في هذا المدخل المختصر، نفتح الحديث عن الجزائر، ما تحقق بعد تلك العشرية الحمراء، وما لم يتحقق لحد الآن لأربعين مليون جزائري، في الأمن والاستقرار وبناء دولة القانون، فقط كأسس أولية بعد تلك المعاناة الكبرى، وهل استطاع الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، هذا الرجل الذي بعث من تحت الرماد مجددا، أن يفي بتعهده عبر هذه العودة إلى المسرح السياسي الجزائري، بتنفيذ شعار« المصالحة الوطنية» الذي رفعه في أكثر من مناسبة؟
بداية إذن، يظهر بوتفليقة وهو يستعد لإعلان مسعى «المصالحة الوطنية»، والذي ردده أيضا الكثيرون من شركائه السياسيين وأنصاره في كل المواقع. وهو الشعار الذي ثمنته مختلف فئات الشعب الجزائري من دون تردد، لأنه يعني ببساطة لشعب عانى آلاما قاسية، أن كابوس الفظاعات والجراح المفتوحة على المجاهيل، قد انتهى، وأن صفحة أخرى من الأمل والاستقرار قد فتحت، وبالتالي أن ترتيب البيت السياسي الجزائري حان أوانه الآن ودون تأخير، فالمرحلة الحالية تستدعى بناء دولة المؤسسات، والإقلاع السياسي النظيف، ولن تكون هناك أية محاولة لسرقة الإرادة الشعبية، أو مصادرة حقها في الاختيار والتعبير الحر، أو استغلال النوايا الطيبة لقطاعات واسعة من الشعب الجزائري التي افترضت حسن النية في رجال المسار الجديد، وتفترض الآن أن عهد المصالحة قد بدأ.
تؤكد بعض المصادر في الجزائر أن الرئيس عبد العزيز بوتفليقة ينوي استفتاء الشعب الجزائري شهر أبريل (نيسان) المقبل، حول أطوار «المصالحة الوطنية» التي تتضمن في الظاهر أيضا العفو الشامل عن المتورطين في أعمال العنف خلال عشرية المواجهة. وهنا لم تستطع أطراف عدة أن تفهم ماذا يعني «العفو الشامل»، ومن ثمة ما هي «المصالحة الوطنية» نفسها، التي تتحدث عنها مؤسسة الرئاسة، وما هي الأطراف التي سوف تتصالح مع بعضها البعض، وهل تم تحديد تلك الأطراف بالاسم بدون لغط، وكيف يسأل الشعب عن «المصالحة» وهو لا يعرف أساسا مراميها وأهدافها؟
ومع هذا الغموض، لم يتوان معظم الشركاء السياسيين في تحديد مواقفهم من هذه العملية، واجتهدوا في فهمهم للمصالحة الشاملة، وعلى أي الأسس يجب أن تكون. ونحاول هنا أن ننقل عنها تلك الآراء.
* هؤلاء مع المصالحة وإن بدت على غير صورة التصالح
* بداية أعلنت حركة مجتمع السلم، وهي واحدة من أقطاب التحالف الثلاثي الذي زكى ترشيح الرئيس عبد العزيز بوتفليقة في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وقال رئيس الحركة أبو جرة سلطاني في تصريح سابق، إننا ندعم فكرة المصالحة الوطنية، وقد كنا من الأوائل الذين طالبوا بتكريس هذا المسار»، ولكن يستطرد سلطاني ليقول إننا لم نطلع بعد على الطريقة التي تطرح بها هذه المصالحة. ويعني هنا للكثير من المراقبين أن حركة «مجتمع السلم»، وحتى من أيام مؤسسها الرحل الشيخ محفوظ نحناح، لم تكن تتأخر في الخوض في بعض أمهات القضايا السياسية عبر تحديد مواقفها الفاصلة بدون أن يكون لديها الإطلاع التام بنوايا السلطة حول تلك القضايا، وهذا ما يؤخذ عليها هذه المرة في قضية المصالحة. فإذا كان الأقربون والمشاركون «الحقيقيون» في إدارة السلطة لم يفهموا بعد ماذا يدور في خلد الرئيس بوتفليقة حول هذا الملف، فكيف بمشارك «بعيد» أن يسابق الأحداث. والصورة تبدو عكس ذلك، أو بالأحرى «ملونة» كثيرا عند رئيس الحكومة أحمد أويحيى، وهذا الأخير، رئيس حزب التجمع الديمقراطي الذي استقوى به بوتفليقة في أخذ عهدته الرئاسية الثانية، وهو ثالث أحزاب التحالف الرئاسي بعد حمس والجناح الآخر في حزب جبهة التحرير الوطني المؤيد لبوتفليقة، يرى ـ مشترطا ـ أن «المصالحة الوطنية» لا تعني عودة «الجبهة الإسلامية للإنقاذ» المحظورة إلى العمل السياسي، ولا التخلي عن مكافحة «الإرهاب»، وعدا ذلك فهو يدعو «كل القوى المخلصة» إلى التجند للدفاع عن المصالحة.
ويقول أويحيى عبر مقال كتبه مؤخرا، أن «البعض يحاول حاليا، حصر المصالحة الوطنية في علاج المسألة الأمنية أو في حل أزمة سياسية مزعومة، والواقع أن هاتين المقاربتين خاطئتان، بل تخدمان طرحا سياسيا واضحاً». ويضيف «الآن بات واضحا أن العودة إلى الأهل بأمان، أصبحت مضمونة لكل من يتخلى عن «الجريمة»، في حين تأكد عزم الدولة على القضاء بكل قوة القانون، على من يصر على مواصلة ارتكابها». هذا هو موقف أويحيى، بمعنى آخر أنه ما زال يتحدث بلغة الإقصاء التي طبعت مواقفه السابقة والتي لم يطورها لحد الآن، لأن لغة المصالحة، تعني خطابا تصالحيا جديدا يضمد الجراح، ويطوي نهائيا الصفحة مع الماضي، فكيف تكون هناك مصالحة بدون كل الأطراف من دون استثناء؟ إذن في هذه الحالة، أن كل رجال المرحلة السابقة لا يصلحون للمصالحة، و«نستثنى» فقط الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، فالرجل طبق مشروع «الوئام المدني» الذي تبناه في بداية ولايته الأولى، والذي سمح بعودة حوالي ستة آلاف مسلح ينتمون إلى «الجيش الاسلامي للإنقاذ» إلى بيوتهم بدون ملاحقة أمنية، وسواء كان ذلك المشروع من إنتاج قريحة بوتفليقة أو من إنتاج غيره، فهو بصمه باسمه. وينتظر أن يطبق نفس المبدأ مع أفراد الجماعات المسلحة الذين لا يزالون ينشطون في الجبال. وتعد «الجماعة السلفية للدعوة والقتال» أنشط جماعة مسلحة في الميدان حالياً.
ويقول المطلعون على الشأن الجزائرى لـ«الشرق الأوسط»، أن رئيس الحكومة لجأ إلى كتابة رأيه لأول مرة فى إحدى الصحف المحلية، لكى يضع فاصلا بينه وبين رئيسه حول المصالحة الوطنية، ومعناه إبعاد قادة الجبهة الإسلامية للإنقاذ من أي ظهور على الساحة السياسية مجددا، حتى وإن كانت بأشكال أخرى. هذه النقطة بحسب تلك المصادر بدت وكأنها القشة التي قصمت ظهر البعير بين الرجلين، وخاصة عندما لخص أويحيى موقفه النهائي من قادة الإنقاذ، قائلا «في الواقع أن هناك حزبا تم حله نهائيا بحكم من العدالة، وهناك أشخاص جردتهم العدالة أيضا من الحق في ممارسة النشاطات السياسية». معنى ذلك أن الصراع بدأ من رأس القمة حول كيفية المصالحة.
وبالقابل كيف يرد أويحيى وأنصار تلك الطروحات، إذا قوبلوا بجملة من الاشتراطات من الطرف المقابل. «الشرق الأوسط» سالت عبد القادر بوخمخم أحد قيادى الجبهة الإسلامية للإنقاذ بالداخل عن الكيفية التي يمكن أن تتم بها المصالحة الوطنية، وما موقع الإنقاذيين من خريطة المستقبل.