الرواتب والاجور في القطاع الوضيفي العمومي
كثر الحديث منذ بداية 2005 عن عملية المغادرة الطوعية خلال سنة 2005 والتي تستهدف احالة حوالي 30 ألف موظف عمومي على التقاعد المبكر. والمبرر أن هذه العملية ستقلص من نسبة نفقات التسيير مما يخفف من الأعباء المالية للميزانية، وكذا دفع الأطر المحالون على التقاعد إلى العمل في القطاع الخاص الشيء الذي سيؤدي إلى حركية اقتصادية تمتص نسبة من الأيدي العاملة المعطلة خصوصا حملة الشهادات العليا.
وبغض النظر عن مدى الانسجام الحاصل في هذا المجال بين التحالف الطبقي السائد ومدى استفادته من مثل هذه الخطوة التي ستدمر ما تبقى من المرافق العمومية لكي يحل القطاع الخاص الأجنبي على الخصوص مكانها في مجالات التعليم والصحة والنقل والخدمات الشبكية... الخ، فإن العملية تبدو من الناحية الموضوعية مدمرة للاقتصاد الوطني ككل نظرا لأن تمويل العملية تتم بواسطة الاستدانة الخارجية مما يرفع من حجم المديونية الخارجية، وأن الإدارة العمومية ستفتقد لأطرها المؤهلة التي بوسعها قيادة قاطرة التنمية في حالة ترشيد القطاع العمومي بدل خوصصته، كما ستؤدي إلى إهدار مزدوج للطاقات البشرية وللمال العام وبالتالي تكريس تدهور الخدمات العمومية وإنتاج تفاوت طبقي لا مثيل له سواء من الناحية المادية أو المعيشية أو الخدماتية.
من هنا يمكن التساؤل حول واقع الرواتب والأجور في قطاع الوظيفة العمومية وهل تشكل فعلا عبئا على الميزانية العامة للدولة؟ البحث هنا لا يستهدف هذه الرواتب والأجور من حيث الكم، بل الغاية تكمن في دورها الاجتماعي وفي الخلفيات التي جعلتها تتفاقم وبالتالي يتم التآمر على تقليصها، ولعل كل هذه الأشياء من شأنها خلق أوضاع اقتصادية واجتماعية جديدة سيستفيد منها رأس المال على حساب العمل.
فمنذ عقدين من الزمن يشهد قطاع الوظيفة العمومية تحولا سريعا مطبوع بتجميد التوظيف وتناقص عدد الموظفين بسبب تزايد عدد المحالين على التقاعد مقارنة بالنشطاء منهم مما يحدث انقلابا في قدرة الصندوق المغربي للتقاعد على المحافظة على توازنه المالي. ويعود هذا التحول إلى أزمة الميزانية العامة المزمنة المتسمة بهيمنة نفقات التسيير والمديونية على نفقات الاستثمار وتدخل المؤسسات المالية الدولية في سياسة تدبير هذه الميزانية عبر تقليص تدخل الدولة والقطاع العمومي في الحياة الاقتصادية والاجتماعية، وتمكين القطاع الخاص الأجنبي على الخصوص من الاستحواذ على المساحات التي كانت من تدبير القطاع العمومي سواء في مجال التعليم أو الصحة أو النقل أو الخدمات الأساسية الشبكية كالماء والكهرباء والسكك الحديدية ... الخ.
لكن ما هي حقيقة الوضع داخل القطاع الوظيفة العمومية؟ وهل بالفعل أن هذا القطاع لم يعد قادرا على استيعاب المزيد من اليد العاملة؟ وهل من الممكن التقليص من عدد العاملين ومن كثلة الأجور المدفوعة؟ تم ما هو المستوى الأمثل لأعداد العاملين بهذا القطاع؟ وهل يمكن الربط بين عدد هؤلاء وبين مستوى الإنتاجية؟
تلك هي بعض الأسئلة التي تطرح بمناسبة الحديث عن إشكالية الرواتب والأجور بقطاع الوظيفة العمومية ببلادنا. وسنحاول من خلال ما يلي طرح بعض الأفكار والملاحظات المتفرقة والتي تحاول التنبيه إلى خطورة الإشكالية المطروحة.
فاليد العاملة في قطاع الوظيفة العمومية تشكل بعدا مهما في الميزانية العامة للدولة، حيث أصبح بند أجور والمرتبات تشكل شطرا مهما من الإنفاق العمومي الجاري. ويوجد مقابل أداء هذه الأجور والمرتبات ما ينتجه العاملون من خدمات عامة مختلفة تقدمها الدولة للمواطنين كخدمات التعليم والصحة والنقل والأمن والدفاع والعدالة، …الخ، فضلا عن باقي المنتجات السلعية التي ينتجها القطاع العمومي.
إن إشكالية الرواتب والأجور بقطاع الوظيفة العمومية تكمن في مدى التناسب القائم بين الأجور المدفوعة ومستوى الإنتاجية. فمن بين الحلول التي تم طرحها لمعالجة الأزمة الاقتصادية الحالية ببلادنا هناك العمل على رفع مستوى الإنتاجية.
ولا يخفى أن تزايد حجم تدخل الدولة واتساع الوظائف التي تقوم بها كان من نتائجه المباشرة تزايد أعداد العاملين بالقطاع العمومي وبالتالي تزايد حجم الإنفاق العام في هذا المجال. فكلما كان حجم تدخل الدولة كبيرا وتطلب ذلك إنشاء عدة وحدات إدارية بموظفيها وبتجهيزاتها اللازمة كلما كانت مبالغ الاعتمادات التي تخصصها ميزانية الدولة كبيرة. ويبرز تعدد وظائف الدولة في هذا الإطار من خلال عدد الوزارات القائمة على مباشرتها وعدد المؤسسات والمرافق العمومية ويعكس كل ذلك هامش متزايد من التكاليف التي تتحملها الميزانية العامة.
فخلال عقد السبعينات التزمت الدولة في إطار الخدمة المدنية بتعيين الخرجين الجدد من المدارس والمعاهد الفنية والجامعات كأحد سبل مكافحة البطالة. وقد أدى ذلك إلى ارتفاع بند الأجور والمرتبات في الميزانية العامة للدولة. بيد أن عددا كبيرا من هؤلاء الموظفين أصبح ذا إنتاجية منخفضة بسبب عدم جدية تخطيط القوى العاملة وإعادة هيكلتها بما يتناسب واحتياجات التوسع الوظيفي المنتج وبسبب انخفاض حجم الاستثمار العمومي منذ بداية عقد الثمانينات.
وقد ترتب على نمو أعداد الموظفين تزايد بند الأجور والمرتبات في الميزانية العامة للدولة، وأصبح الإنفاق العمومي في هذا المجال يمتص نسبة لا بأس بها من الإنفاق العمومي الجاري. كما ترتب على ذلك أيضا ارتفاع النصيب النسبي للأجور المدفوعة لموظفي الدولة مما شكل إطارا رئيسيا في مجال توزيع الدخل الوطني.
حصة مرتبات الموظفين ضمن الإنفاق العمومي
وضمن الإنفاق الجاري 1958-1986 بالمليون درهم وبالنسب المئوية
السنوات مجموع الإنفاق العمومي الإنفاق الجاري مرتبات الموظفين نسبة مرتبات الموظفين إلى مجموع الإنفاق العمومي نسبة مرتبات الموظفين إلى الإنفاق الجاري
1958 1.608 1.300 780 --- 48,70 54,5
1960 1.840 1.480 890 14,1 48,30 60,1
1962 2.320 1.820 1.050 17,9 45,25 57,6
1964 3.050 2.191 1.180 12,3 38,60 53,8
1966 2.770 2.160 1.240 5,1 44,70 57,0
1968 3.776 2.640 1.430 15,3 37,90 54,1
1970 4.156 2.930 1.780 24,4 42,80 60,7
1974 10.075 6.646 2.870 38,5 26,07 37,8
1976 18.845 9.085 4.250 48,1 25,01 48,4
1978 19.477 11.177 5.750 35,5 30,30 50,4
1980 23.563 15.135 8.110 41,0 33,70 48,1
1982 39.361 22.554 10.350 27,6 26,20 45,8
1984 38.829 28.674 11.930 16,9 30,60 41,6
1986 61.982 14.500 10,1 32,30 44,9
المتوسط 24,0 35,50 50,5
المصدر: جدول مستمد من تقارير بنك المغرب
بيد أنه في ضوء تفاقم الأزمة الاقتصادية ببلادنا، اتجهت السلطات العمومية، وتحت ضغط صندوق النقد الدولي، إلى الضغط على أجور ومرتبات المشتغلون في قطاع الوظيفة العمومية، كمحور رئيسي في إجراءات التقويم الانكماشي المالي للميزانية العامة، انطلاقا من كون بند الأجور والمرتبات يشكل كتلة رئيسية في الإنفاق العمومي، وأن أي ضغط عليها يحقق نتائج إيجابية في توفير الموارد العمومية.
وبالفعل توجهت الاختيارات المهيمنة منذ بداية عقد الثمانينات إلى إلغاء عددا من المناصب المالية الشاغرة والوظائف المؤقتة، وقامت بتجميد التعيين، وأوقفت العمل بالضمانات المتاحة لتوظيف الخريجين الجدد من حملة الشهادات. وعملت على تجميد الأجور والعلاوات، ووضعت حدا أقصى لها. كما شجعت على التقاعد الاختياري قبل بلوغ السن القانونية منذ بداية التسعينيات في المؤسسات العمومية وخلال سنة 2004 و2005 في قطاع الوظيفة العمومية. وقد ساهم كل ذلك في تزايد حدة البطالة وتردي مستوى معيشة كاسبي الأجور والمرتبات في القطاع العمومي.
ونظرا لكون السلطات المالية تجد صعوبة في إيجاد الموارد المالية الكافية للزيادة من نسب الاستثمار العمومي فهي تعمل على ضغط نفقات التسيير وتقليص نفقات المديونية لتحقيق غايتها تلك، وبما أن أبرز نفقات التسيير تتمثل في أجور ومرتبات العاملين بالقطاع العمومي فهي تحاول التأثير على هذا المستوى.
تطور الإنفاق العمومي بالمغرب
1957 -2000
بالمليون درهم وبالنسب المأوية
السنوات
نفقات التسيير نسبة نفقات التسيير إلى مجموع النفقات العمومية
الدين العمومي
نسبة نفقات الدين العمومي إلى مجموع النفقات العمومية
نفقات الاستثمار نسبة نفقات الاستثمار إلى مجموع النفقات العمومية مجموع نفقات الميزانية العامة
1957 1100 72 117 8 302 20 1519
1960 1483 74 155 8 369 18 2007
1965 1896 66 206 7 775 27 2879
1970 2753 65 324 8 1132 27 4209
1975 8848 56 615 4 6288 40 15751
1980 12635 54 2500 11 8428 36 23563
1985 21284 48 10747 24 12282 28 44313
1990 30347 46 22433 34 12675 19 65455
1995 47174 52 27673 30 16624 18 91471
2000-99 63438 52 40468 33 18327 15 122234
2003 78.250 56 41.759 30 19.547 14 139.556
المصدر: 1957-1964 الحسابات الاقتصادية والمالية للمغرب
1968-1971 الإحصائيات السنوية للمغرب
1972-200 تقارير بنك المغرب ووزارة الاقتصاد والمالية
يستفاد من الجدول أنه حدث تزايد هائل في الإنفاق العمومي ما بين 1957 و1970 حيث بلغ معدل التزايد نسبة 36 % . بينما تراجع هذا المعدل خلال عقد السبعينات (1970 –1980) إلى 17%، لكن خلال العقد الموالي (1980-1990) سيرتفع هذا المعدل مرة أخرى ليصل إلى 35 %، ثم سيتواصل هذا التزايد خلال عقد التسعينات(1990-2000) ليبلغ أعلى معدل له 53 %.
ويظهر أن التطور الهائل الذي عرفه الإنفاق العمومي خلال عقد التسعينات يرجع إلى الأهمية النسبية لنفقات المديونية الخارجية حيث بلغ معدلها إلى مجموع الإنفاق العمومي على التوالي سنتي 1990 و2000 نسب 34% و33%. وبذلك أصبحت تشكل أهم بند في الميزانية العامة. غير أن المفارقة التي تبرز هنا هي أن استفحال المديونية قد انطلق مع بداية عقد الثمانينات أي مع انطلاق سياسات تدبير الأزمة الشيء الذي يذكرنا بأن هذه السياسات هي المحرك الحقيقي لتفاقم المديونية، فبدلا من أن تؤدي هذه السياسات إلى حصرها وتقلصها نظرا للشعار الذي ظل يطبع المرحلة والمتمثل في استعادة التوازنات الهيكلية نجد أن العكس هو الذي حدث.
ويستدعي الواقع الراهن للقطاع العمومي إبداء جملة من الملاحظات كما يلي:
أولا - شكلت اليد العاملة في القطاع العمومي حتى بداية عقد الثمانينات مجالا أساسيا لمكافحة البطالة، بمعنى أن النسبة الكبرى من استيعاب العمال الذين كانوا يخرجون سنويا إلى سوق العمل كانت تستأثر بها الإدارات العمومية وإدارات الجماعات المحلية والمؤسسات العمومية. ويعود ذلك في كثير من الحالات إلى الالتزام بتعيين الخريجين الجدد من المعاهد والجامعات . فقد ترتب على هذا الالتزام، فضلا عن تزايد الإنفاق على التعليم، ضمان وجود فرصة عمل لكل خريج جديد. وتبدو أهمية هذا الالتزام، من حيث امتصاص البطالة، ففي ظل النمو السكاني المرتفع وضعف قدرة القطاع الخاص عن استيعاب إعداد متزايدة من العاطلين عن العمل، كان القطاع العمومي يتمكن من استيعاب اليد العاملة الجديدة بشكل مؤثر.
لكن في ضل ضغط عجز الميزانية العامة، وندرة مواردها المالية ، ظهر اتجاه قوي لتقليص دور الدولة في تعيين الخريجين الجدد، وذلك في ضوء السياسات الانكماشية التي اضطرت بلادنا لتطبيقها، بإيعاز من المؤسسات المالية الدولية.
ثانيا - أصبح الإنفاق العام في مجال صرف رواتب وأجور العاملين في القطاع العمومي يمتص النسبة الكبرى من الإنفاق العام الجاري. ومع النمو المتزايد للأجور، وفي ضوء تراجع طاقة الدولة الضريبية المترتب على اثر الإصلاح الجبائي إضافة إلى عوامل متفرقة، فإن العجز بالميزانية العامة أخذ يتسع عاما بعد الآخر. وإذا لم يكن النمو الحادث في بند الأجور هو المسؤول الأول والأخير عن عجز الميزانية العامة. فلا يمكن التقليل من أهمية بند الأجور باعتباره أحد المحاور المسئولة عن نمو الإنفاق العمومي، ومن ثم عجز الميزانية العامة، وبخاصة في ضوء تردي أو جمود موارد الدولة السيادية.
تطور عجز الميزانية العامة في المغرب
1964 - 1998
بالمليون درهم
السنوات المداخل
العمومية الإنفاق العمومي الفائض العجز نسبة العجز إلى الناتج الداخلي الإجمالي
1964 2265 3010 -745 5.96
1965 2877 2876 -0,26 0.00
1970 4176 4210 -33,53 0.20
1971 4652 4718 -65,47 0.35
1972 4732 5214 -481,41 2.39
1975 13533 15751 -2218,26 6.09
1976 1613 18945 -2812,39 6.81
1980 21666 23562 -1896,25 2.56
1981 25698 28174 -2476,14 3.13
1985 38055 44313 -6257,92 4.83
1986 50628 61983 -11355,14 7.36
1990 66217 65455 762,218 -
1991 70104 70623 -518,93 0.22
1995 88900 91471 -2571,32 0.93
1997/1996 88550 98363 -9812,60 3.07
1998/1997 94808 106732 -11923,66 3.73
2003 136.769 139.556 2787 - 0,66
المصدر: جدول مستمد من تقارير بنك المغرب