وانتهج ابن باديس منهجية عقلية لاقتناع الذين لم يشاطروه الرأي أو انحرفوا عن الطريق المستقيم، ولم يستعمل الجدل ولا التعريض بهم بل كان يتلقى الآراء بهدوء ويقدم الأدلة الواضحة التي تساعد الخصوم على التأمل والاقتناع بما يقول، ولم يهاجم المدنيين والملحدين، وفسح المجال لكسبهم في يوم من الأيام، وتخلى عن التعصب الذي كان يسود المناقشات والمؤلفات إلى أن مال الجمهور إليه شيئا فشيئا وجلب إليه ببعض المثقفين الذين كانوا أبعد الناس عليه بحكم أفكارهم وتكوينهم، ولم يؤيدوا مدرستهم في أول الأمر ولم ينتهج الأسلوب هذا مع الاستعمار، فعارضه بشدة وحارب أنصار الإدارة الفرنسية ولم يتسامح مع معظم المستشرقين الذين أيدوا التصوف والطرقية إذ ركزوا على الخرافات قصد إقناع الناس بأن الأولياء هم الذين يمثلون الإسلام ونشروا السخرية والإلحاد بين المثقفين لإبعادهم عن دينهم وحملهم على الاندماج في السياسة الفرنسية، وقد استفاد الاستعمار من هذه الخلافات ولكن الشيخ ابن باديس واصل جهاده وفي النهاية كان النصر حليفه، انهزمت بعض الطرقية لأنها نشرت الخرافات ودعمت فكرة التواكل والكسل ولم تعتني بالتعليم كما كانت تعمل في بداية الأمر، فأصبحت آلة مسخرة في يد الإدارة الاستعمارية بل ساعدت على سياسة الاحتلال والاستبداد وفقدت شعبيتها، وقد حاول "ابن باديس" إرجاعها إلى سواء السبيل وطالبها بتغيير مواقفها، أبدى استعداده للتصالح معها إن فعلت ذلك وتخلت عن علاقتها بالإدارة الأجنبية (الشهاب مارس 1938) غير أنها لم تفعل وأصبح من الضروري تدعيم الحركة الإصلاحية في الجزائر ولخص "ابن باديس" مشروع عمله في ثلاث جمل مشهور "الإسلام ديني _والعربية لغتي_ والجزائر وطني". وعمل على تحقيقه بكل ما لديه من قوة وإخلاص، ولهذا الغرض أسس "جمعية العلماء المسلمين الجزائريين" بتاريخ 5 مايو 1931 في مدينة الجزائر وشارك في الاجتماع الذي جلب ابن باديس وأصحابه ممثلون من مختلف أنحاء القطر وتم انتخاب ابن باديس رئيسا للجمعية وتم انتخاب المجلس الإداري ولها وكان من أعضائه الشيخ "البشير الإبراهيمي" والشيخ "مبارك الميلي" والشيخ "العربي التبسي" والشيخ "الطيب العقبي" وغيرهم، وحددت جمعية العلماء أهدافها في النقاط التالية :
_ التعريف بالإسلام على حقيقته، ومحاربة أعدائه ومحرفيه، والاعتماد على الاجتهاد والمنهج العقلي ورفض التقليد الأعمى على أن يكون القرآن الكريم والسنة النبوية أساس الإصلاح الديني. والتوجيه الإسلامي لا يقبل الخرافات والبدع، ويجب ارتباط النشاط العلمي بالتأمل النظري ولا سيما في محاربة بعض الطرقية التي تحولت إلى أداة التجهيل في يد النظام الاستعماري، فسهلت سياسة الاستبداد والاندماج وهذا ليس في مصلحة الأمة، وفي النهاية يكون خلاص الأمة في توحيد الفكر والعمل الذي أصبح واجبا وطنيا، وتتجسد الوحدة الإسلامية في بناء المدارس والمساجد والنشاط الصحافي والثقافي لنشر الوعي في الأمة.
يتميز الشيخ عبد الحميد ابن باديس بالنزاهة والشجاعة بمختلف أشكالها إذ دافع عن أفكاره ضد الخصوم وثبت على مبادئه رغم الصعوبات والعراقيل ولم تستطع قوى النفاق والغدر أبعاده عن طريقه أو التقليل من عزمه. وإذا قمنا بمقارنة بين كثرة أعماله وقصر عمره أدركنا أنه قد ضحى بحياته في خدمة وطنه وشعبه ودينه وتوفي يوم 16 أبريل 1940 وهو الواحد والخمسين من عمره، وفي مثل هذه السن يكون الإنسان عادة في قمة فكره ونشاطه، وتخليدا لذاكرة يحتفل الشعب الجزائري سنويا بشخصية ابن باديس وأعماله في "يوم العلم" الذي يصادف تاريخ وفاته، وهكذا بقي هذا الرجل العظيم حيا في ذاكرة شعبه وأمته، ويمكن أن نذكر من مؤلفاته "مجالس التذكير" في التفسير وفي الحديث ومقالاته الكثيرة في "الشهاب" و "البصائر" ومحاضراته في مختلف المدن…